في مفارقة تثير الكثير من التساؤلات، يبدو أن العملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين، والتي وُلدت من رحم التمرد على النظام المالي التقليدي، باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى أحضانه، مدفوعةً بموجة تبنٍّ مؤسسي متصاعدة تقودها كبرى المصارف وصناديق الاستثمار العالمية.
فمنذ أن كتب ساتوشي ناكاموتو الورقة البيضاء عام 2009، كانت الفكرة الجوهرية خلف البيتكوين هي خلق نظام نقدي لا مركزي، يتحرر من قبضة البنوك والحكومات، ويمنح الأفراد حرية مالية غير مسبوقة. غير أن المشهد اليوم، بعد أكثر من 17 عاماً، يُظهر تحوّلاً دراماتيكياً في طبيعة هذا “الحلم اللامركزي”.
بحسب تقرير نشرته شبكة CNN الاقتصادية، فإن مؤسسات كبرى مثل “كوين بيس” و”تشامبر أوف ديجيتال كوميرس” باتت تطالب الجهات التنظيمية الأميركية بمنح البنوك حق تقديم خدمات متعلقة بالعملات المشفرة، مثل التداول والحفظ، ضمن أطر تنظيمية واضحة، في مشهد يعكس تقاربًا غير مسبوق بين العالم اللامركزي والمؤسسات المالية التقليدية.
ويرى محللون أن هذا التوجّه قد يُفرغ العملات المشفرة من جوهرها التحرري، ويحولها إلى أدوات مالية تقليدية مغلّفة بالتقنيات الحديثة. وأوضح جورج خوري، رئيس قسم الأبحاث في “CFI”، أن سيطرة صناديق التحوط والمصارف الكبرى على السيولة والزخم في السوق، ولا سيما في صناديق البيتكوين والإيثريوم المتداولة، تمثل دليلًا على هذا الانحراف عن المسار الأصلي.
وأضاف خوري أن هذه السيطرة قد تؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين الحقيقيين في العملات المشفرة، محذرًا من أن مستقبل هذه الصناعة قد يكون مرهونًا بتوازن هشّ بين مراكز القوة التقليدية والفكر اللامركزي الذي بُنيت عليه هذه التقنية.
من جانبه، قال رائد الخضر، رئيس قسم التحليل في مجموعة “إيكويتي”، إن دخول المؤسسات ليس تهديدًا بحد ذاته، لكنه يصبح كذلك حين تُستخدم العملات المشفرة كأداة لإعادة احتكار السلطة المالية بشكل جديد، مشيرًا إلى أن المعركة اليوم ليست على التقنية بل على الرؤية: هل ستبقى العملات المشفرة وسيلة للتحرر المالي، أم تتحول إلى مجرد نسخة رقمية من النظام الذي وُجدت لتحدّيه؟
وبينما تزداد مؤشرات التحول من “ثورة رقمية” إلى “أداة استثمارية”، يبقى السؤال الأكثر جوهرية اليوم:
هل نجح النظام المالي التقليدي في احتواء أكبر محاولة لزعزعته، أم لا تزال جذوة اللامركزية حية في قلوب المؤمنين بها؟







